كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ميراث الكلالة:
قال اللّه تعالى: {وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ}.
اختلف الصحابة رضوان اللّه عليهم في الكلالة. فذهب أبو بكر إلى أنّها من عدا الوالد والولد، أخرج ابن جرير عن الشعبي، قال: قال أبو بكر رضي اللّه عنه: إني رأيت في الكلالة رأيا، فإن كان صوابا فمن اللّه وحده لا شريك له، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان، واللّه منه بريء. إن الكلالة ما خلا الوالد والولد.
وذهب عمر إلى أنها من عدا الولد، وروي أنّ عمر رجع عن ذلك بعد أن طعن، وقال: كنت أرى أن الكلالة من لا ولد له، وأنا أستحيي أن أخالف أبا بكر، الكلالة من عدا الوالد والولد.
وروي عنه أيضا التوقف، وكان يقول: ثلاثة لأن يكون بيّنها الرسول صلّى اللّه عليه وسلّم لنا أحب إليّ من الدنيا وما فيها: الكلالة، والخلافة، والربا، ويظهر أنّ حجة عمر رضى اللّه عنه أن اللّه ذكر الكلالة في آخر السورة فقال: {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} [النساء: 176] والظاهر أن قوله: {لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ} تفسير للكلالة، والراجح قول أبي بكر رضي اللّه تعالى عنه، ويدلّ على ذلك اشتقاق الكلمة فإنّ مادة (كلّ) تدل على الضعف، يقال: كلّ الرجل يكلّ كلالا وكلالة إذا أعيا، وذهبت قوته، ثم استعاروا هذا اللفظ للقرابة، لا من جهة الولادة أي القرابة الضعيفة، وقد علمت أنّ القرابة بالولادة قوية، فلا يطلق عليها كلالة، ويدل على ذلك أنّ اللّه حكم بتوريث الأخوة والأخوات إذا ورث كلالة، ولا شكّ أنّ الإخوة والأخوات لا يرثون عند وجود الأب، فوجب ألا يكون الوالد من الكلالة.
الكلالة ترد وصفا للميت، ويراد بها من لا يرثه والد ولا ولد، وقد ترد وصفا للوارث، ويراد بها من عدا الوالد. فمن الأوّل قول الشاعر:
ورثتم قناة المجد لا عن كلالة ** عن ابني مناف عبد شمس وهاشم

ومن الثاني ما في حديث جابر قال: مرضت مرضا أشفيت منه على الموت، فأتاني النبي صلّى اللّه عليه وسلّم، فقلت: يا رسول اللّه إني رجل لا يرثني إلا كلالة، وأراد به أنه ليس له والد ولا ولد.
والظاهر أنها في الآية وصف للميت، لأنّها حال من نائب فاعل يورث، وهو ضمير الميت، ثم إذا كانت مصدرا قدّر مضافا، أي ذا كلالة، وإن كانت صفة كالهجاجة والفقاقة للأحمق لم يحتج الأمر إلى مضاف.
والمراد بالأخوة هنا الأخوة للأم، دون الأخوة الأشقاء، ودون الإخوة للأب، بدليل قراءة سعد بن أبي وقاص (و له أخ أو أخت من أم) ويدل عليه أيضا غير هذه القراءة أن اللّه ذكر ميراث الإخوة مرتين هاهنا، ومرة في آخر هذه السورة، فجعل هاهنا للواحد السدس، وللأكثر الثلث شركة، وجعل في آخر السورة للأخت الواحدة النصف، وللاثنتين الثلثين، وللذكر المال، فوجب أن يكون الإخوة لأب وأم أو لأب، فتعيّن أن يكون المراد هنا الإخوة لأم، ويرجحه أنّ الفرض هنا الثلث أو السدس، وهو فرض الأم، فناسب أن يكون فرض الإخوة الذين يدلون بها، وهم الإخوة لأم.
وقد تبين أنّ الإخوة لأم لهم حالتان:
1- أخ لأمّ منفرد، أو أخت لأم منفردة، وله أو لها السدس.
2- أن يتعدد الأخ لأم أو الأخت لأم وفي هذه الحالة يكونون شركاء في الثلث، يقسّم بينهما بالسوية، لأنثاهم مثل ذكرهم، لأن مطلق التشريك يدلّ عليه.
ويمنع الإخوة لأمّ من الميراث الوالد والولد، لأنّ اللّه جعل لهما ذلك النصيب إذا كان الميت يورث كلالة، وقد ذكرنا أنّها من يرثه غير الوالد والولد.
وهنا بحث لفظي، وهو أن اللّه تعالى قال: {وَإِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ} ثم قال: {وَلَهُ أَخٌ} فكنّى عن الرجل، ولم يكنّ عن المرأة، وهذا في العطف بأو جائز، ويجوز في مثل هذا الكلام أن تكنّي عن المرأة أو تكنّي عنهما معا، قال الفراء: إذا جاء حرفان في معنى بأو جاز إسناد التفسير إلى أيهما أريد، ويجوز إسناده إليهما أيضا، تقول: من كان له أخ أو أخت فليصله، يذهب إلى الأخ، أو فليصلها يذهب إلى الأخت ولو قلت: فليصلهما جاز أيضا.
{مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ}.
يقول اللّه: هذه القسمة للإخوة للأم من بعد وصية يوصي بها الميت، أو دين وهو غير مضار الورثة بوصيته أو دينه، والمضارة بالوصية أن يوصي بأكثر من الثلث، أو به فأقل، قاصدا ضرار الورثة دون وجه اللّه، والمضارّة في الدين أن يقرّ بدين لمن ليس له عليه دين، وعن قتادة كره اللّه الضرار في الحياة وعند الممات ونهى عنه.
وتفيد الآية أن الوصية والدين اللذين قصد بهما الضرار لا يجب تنفيذهما، لأنه شرط في إخراجهما قبل التوريث عدم المضارة.
{وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ} مصدر مؤكد، ناصبه يوصيكم، أي يوصيكم بذلك وصية، أي يعهد إليكم به عهدا وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ يقول: واللّه ذو علم بمصالح عباده وبمضارهم، وبمن يستحق الميراث ومن لا يستحق، وبمقدار ما يستحقه المستحق حَلِيمٌ لا يعجّل بالعقوبة على من عصاه فظلم عباده، وأعطى الميراث لأهل الجلد والقوة، وحرم الضعفاء من النساء والصغار، فهو معاقبهم، ولكنه يحلم عليهم، فلا يعاجلهم بالعقوبة، فلا يظنوا أنهم سيفلتون فلا يعاقبون.
قال اللّه تعالى: {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13)} حدّ كل شيء ما فصل بينه وبين غيره، ومنه حدود الدار، وحدود الأرضين، لفصلها بين ما حد بها وبين غيره.
فالمعنى: هذه القسمة التي قسمها لكم ربكم، والأنصباء التي جعلها لأحيائكم من أموال موتاكم فصول ما بين طاعته ومعصيته، فالكلام على حذف مضاف، أي حدود طاعته، وإنما ترك لعلمه من الكلام. ومن يطع اللّه ورسوله بالتزام ما حدّ من المواريث يدخله جنات تجري من تحت أشجارها وزرعها الأنهار، باقين فيها، لا يموتون ولا يفنون، ودخول الجنة الباقية هو الفوز العظيم.
قال اللّه تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نارًا خالِدًا فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (14)} يقول اللّه: ومن يعص اللّه ورسوله ويتعدّ حدود ما حدّ من المواريث يدخله نارا باقيا فيها، لا يموت ولا يفنى، وله عذاب مذل، مخز من عذبّ به، وهذا يحمل على الذين تعدّوا حدوده مكذبين بصلاحها.
وهنا مسائل لابد من ذكرها لتعلقها بآيات المواريث:
1- قال اللّه تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} إلخ، وهذا يعمّ أولاد المسلمين والكافرين، والأحرار والأرقاء، والقاتلين عمدا وغير القاتلين، وكذلك يقال فيما بعده، ولكن السنة خصصت البعض من هذا العموم، فأخرجت الكافر، فقد ورد في الصحيح عن النبي صلّى اللّه عليه وسلّم: «لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم».
وورد أيضا قوله صلّى اللّه عليه وسلّم: «لا يتوارث أهل ملتين»، وقد أخذ الجمهور بظاهر هذين الحديثين، فلم يورّثوا مسلما من كافر، ولا كافرا من مسلم.
وذهب بعضهم إلى أنّ الكافر لا يرث المسلم ولكنّ المسلم يرث الكافر، قال الشعبي: قضى معاوية بذلك، وكتب به إلى زياد، فأرسل ذلك زياد إلى شريح القاضي وأمره به، وكان شريح قبل ذلك يقضي بعدم التوريث، فلما أمره زياد بذلك كان يقضي به، ويقول: هكذا قضى أمير المؤمنين، وحجتهم ما روي أن معاذا كان باليمن، فذكروا له أن يهوديا مات وترك أخا مسلما، فقال: سمعت النبي صلّى اللّه عليه وسلّم يقول: «الإسلام يزيد ولا ينقص، وورّثه».
فكأنه خصّص الحديثين الأولين بهذا الحديث الأخير، ثم خصص بهما الآية.
وأنت تعلم أن حديث: «الإسلام يزيد ولا ينقص» ليس نصا في إرث المسلم من الكافر، فلا يخصّص به، وكما أن الكافر لا يرث المسلم لا يحجبه، وقال ابن مسعود: يحجب، وهذا ليس بظاهر، لأنّ الشريعة جعلته في باب الإرث كالعدم، فكذلك في باب الحجب، لأنه أحد حكمي الميراث، وكما أن الكافر لم يدخل في قوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} كذلك لم يدخل في قوله: {إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ}.
وقد رأوا أيضا أنّ الحرّ والعبد لا يتوارثان، لأن العبد لا يملك، وأن القاتل عمدا لا يرث من قتله، معاملة له بنقيض مقصوده.
2- قد يترك الميت أصحاب فروض لا تستغرق فروضهم الميراث، ومعهم عاصب، كأن يترك بنتين وعمّا، فللبنتين الثلثان، ويبقى الثلث، ولم يبيّن في آيات المواريث لمن يكون الباقي، وقد بيّنت السنة حكم ذلك.
فقد ورد في الصحيح أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه وسلّم قال: «ألحقوا الفرائض بأهلها، فما أبقت فلأولى رجل ذكر».
ولأجل ذلك قدم الأقرب في العصبة على الأبعد، كالأخ الشقيق يقدم على الأخ لأب، وابن الأخ الشقيق يقدم على ابن الأخ لأب، ويقدم الأخ للأب على ابن الأخ الشقيق.
3- قد يحدث أن يجتمع أصحاب فروض لا تستغرق فروضهم الميراث، وليس معهم عاصب، وقد اختلف العلماء في الباقي بعد أنصباء ذوي الفروض، فقال بعضهم: يردّ على ذوي الفروض بقدر حقوقهم.
وقال بعضهم: لا يرد عليهم، بل هو لبيت مال المسلمين، وعلى القول الأول عامة الصحابة. وبالثاني قال زيد بن ثابت، وبه أخذ عروة والزهري والشافعي، لكنّ المحققين من الشافعية قالوا: إذا لم ينتظم بيت المال يردّ على ذوي الفروض بنسبة فروضهم، وإلا كان لبيت المال.
والقائلون بالرد اختلفوا فيمن يردّ عليه، فالأكثرون على أنه يردّ على جميع ذوي الفروض إلا الزوجين، وهو مذهب الحنفية والشافعية.
وألحق ابن عباس بالزوجين الجدة في المنع، وقال عثمان رضي اللّه عنه: يرد على ذوي الفروض جميعا حتى الزوجين.
احتج من أبى الردّ بأن اللّه تعالى قدّر نصيب أصحاب الفرائض بالنص الظاهر، فلا يجوز أن يزاد عليه، لأن الزيادة تعدّ لحدود اللّه في الميراث، وقد قال اللّه تعالى: {وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نارًا خالِدًا فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (14)}.
وبأنّ الفاضل عن فروضهم مال لا مستحق له فيكون لبيت المال، كما إذا لم يترك وارثا أصلا، اعتبارا للبعض بالكل.
واحتج القائلون بالرد بقوله تعالى: {وَأُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ} [الأحزاب: 6] أي بعضهم أولى بميراث بعض بسبب الرحم، فهذه الآية دلّت على استحقاقهم جميع الميراث بصلة الرحم، وآية المواريث أوجبت استحقاق جزء معلوم من المال لكل واحد منهم، فوجب العمل بالآيتين، بأن يجعل لكل واحد فرضه بتلك الآية، ثم يجعل ما بقي مستحقا لهم للرحم بهذه الآية، ولهذا لا يرد على الزوجين بوصف الزوجية، لانعدام الرحم في حقهما، إذا لم يكونا من ذوي الأرحام.
4- قد يجتمع ذوو فروض مقدّرة في كتاب اللّه، فإذا ذهبنا نعطيهم فروضهم المقدّرة ضاقت التركة عن أنصبائهم، كزوج، وأخت شقيقة، وأم، فلو أخذت الأخت النصف، والزوج النصف، والأمّ الثلث، استغرق النصفان التركة، ولم يبق فيها ثلث، ولم تحدث مسألة كهذه في عهده صلّى اللّه عليه وسلّم، وإنما أول ما حدثت في عهد عمر رضي اللّه عنه.
وقد اختلف رأيه ورأي ابن عباس، فكان رأي عمر العول، وهو أول من حكم بالعول في الإسلام، وذلك أنّه قسّم التركة على سهامهم، فأدخل النقص عليهم جميعا، تشبيها بالغرماء إذا ضاق المال عن ديونهم، فإنهم يتحاصّون بقدر ديونهم، وذهب ابن عباس إلى أنه يقدّم ما قدم اللّه، ويؤخّر ما أخر، وهذا الأثر الذي سنتلوه عليك يشرح لك المسألة.